عشت لأروي

غابرييل غارسيا ماركيز.. عظيم بحق هذا الرجل.. إن روايته "رواية عشت لأروي" (ترجمة صالح علماني) الصادرة عن دار التنوير، هي بلا أدنى شك أفضل سيرة ذاتية قرأتها على الإطلاق. لا يقتصر الأمر على أنه يقدم لك قدرًا لا نهائيًا من التفاصيل حول ماركيز نفسه والتأثيرات التي جعلت منه كاتبًا، بل إنه أيضًا تحليل جيد للوضع السياسي والاقتصادي في القرن العشرين في كولومبيا. بالتناوب بين هذين الموضوعين المثيرين للاهتمام، يجعل ماركيز القارئ يشعر بما شعر به ويرى ما رآه عندما كان أصغر سناً.

حياته، مثل معظم حياة أكبر الكُتاب في عالمنا، كانت بمثابة دوامة من العاطفة، مما جعله يمر بجميع أنواع المواقف ومنحه تجربة الفقر والألم والوحدة، والأهم من ذلك بالنسبة للكاتب، تجربة رؤية حلم. قال مرة في مقابلة: "منذ لحظة ولادتي، عرفت أنني أريد أن أصبح كاتبًا".

في الكتاب، يمكنك أن ترى بوضوح هنا كيف بدأ شغف ماركيز بالكلمة المكتوبة مبكرًا وبشكل غير طبيعي وكيف أصبح مهووسًا بغموض القصص. 

السيرة الذاتية مكتوبة بطريقة موضوعية للغاية، وهناك سبب وجيه لذلك. يمكنك العثور على أشياء قالها له كتاب أو أصدقاء مختلفون لماركيز عنه. وبشكل عام، تشير هذه الأشياء إلى أن ماركيز كاتب استثنائي، وأن مستقبله سيكون مشرقًا.

وبغض النظر عن مدى صعوبة الأمور بالنسبة له عندما كان في العشرينات من عمره، فإن موهبته لا يمكن تفسيرها إلا من خلال نجم محظوظ لا يمكن لأحد التدخل فيه، كل هذا أخبره قبل أن يبلغ من العمر 25 عامًا. بغض النظر عن الطريقة التي انتهى بها الأمر إلى تغيير الوجه الثقافي للقرن العشرين، يمكن لأي شاب أن يتأثر بسهولة بهذا النوع من اليقين السابق لأوانه.

أنا متأكد من أن ماركيز نفسه وجد العزاء في تلك التنبؤات عندما كانت الأوقات صعبة، لكن عمله المستمر وتفانيه أصبحا أكثر جدارة بالثناء. بعد سنوات، عندما كتب هذه السيرة الذاتية، كان عليه ببساطة أن يكون موضوعيًا. أي شيء أكثر من مجرد تذكير بسيط بهذه السطور كان سيبدو كثيرًا مثل الافتتان، مما يؤدي إلى تدمير حكاية مكتوبة ببرود.

أشعر بالأسف الشديد لأنه توقف عندما كان بالكاد في الثلاثين من عمره، والآن ربما لن يكون لدينا أبدًا الأجزاء التالية من قصة ماركيز التي كتبها بنفسه.

وفوق كل ما هو مذهل في هذا الكتاب، فهو لا يبدو أنه مجرد سيرة ذاتية. نسيجه يتجاوز الأمور الواقعية ويدور حول عالم يبدو صوفيًا مثل الشخص الذي كتب عنه. بهذا المعنى، فهذه ليست مجرد سيرة ذاتية.

أتساءل أحيانًا كيف يكون الشعور بالاحترام والحب من قبل رجل غير عادي مثل ماركيز. أن تكون جزءًا من سيرته الذاتية يعني أن تكون جزءًا من أعظم أدب هذا العالم. قد لا يعرف الرجال والنساء الذين أثروا فيه أبدًا كيف شكلوا الحدود الأدبية لعالمنا. فقط نحن الذين يقرؤون سنكون مدينين لهم.